تخطى إلى المحتوى

لـ “إجبارهن على السكوت”.. معلمات في حضرموت يتعرضن لـ “مساومات وانتهاكات”

فاطمة، معلمة شابة تعمل في إحدى مدارس مدينة المكلا بمحافظة حضرموت في اليمن، تعيش حياة صعبة حدودها راتب تعاقدي بالكاد يوفر احتياجات أسرتها الأساسية.  لكن وفي لحظة، انقلبت حياتها رأسا على عقب.

الراتب هو مصدر الدخل الوحيد الذي تعتمد عليه فاطمة لإعالة أمها المريضة، لكنه لم ينتظم، وبدأت الجهات المعنية تؤخر الصرف منذ مارس الماضي، حتى توقف نهائيا. وشكل ذلك ضربة قوية لهذه المعلمة، حيث توفيت والدتها التي لم تحصل على العلاج اللازم.

ولم يكن سبب توقف راتب فاطمة ومعلمين آخرين، نقص ميزانية التعليم أو أزمة مالية تمر بها المؤسسات التعليمية. بل كان ذلك عقابا لمن أضرب احتجاجا على تأخر الرواتب.

 عقوبات للإسكات

قصة فاطمة ليست فريدة من نوعها، بل تعكس معاناة معلمات في حضرموت ممن تعرضن لعقوبات قاسية لأنهن قررن عدم السكوت على تأخر الرواتب المستحقة لهن. ونتيجة لمواقفهن الاحتجاجية تغير كل شيء في حياة هؤلاء المعلمات.

والحرب المستمرة في اليمن، التي دمرت البنية التحتية وأدت إلى انهيار النظام الصحي والتعليمي، جعلت الظروف المعيشية أكثر قسوة لفاطمة وزميلاتها. فالرواتب منخفضة وقيمة العملة المحلية تدهور، وأسعار السلع الأساسية ارتفعت بشكل كبير.

وتتقاضى المعلمات المثبتات في وظائفهن أقل من 40 دولارا شهريا، وتحصل المعلمات اللواتي يعملن وفق نظام العقود أقل من 30 دولارا، وهذه رواتب لم تعد تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، مما دفع المعلمات في حضرموت للاحتجاج والمطالبة بتحسين أوضاعهن المعيشية.

والراتب التعاقدي لفاطمة وزميلاتها لا يغطي الاحتياجات الأساسية. وفي ذات الوقت، تفاجأت هؤلاء المعلمات بتأخير السلطات المعنية هذه الرواتب، بل وصل الأمر إلى إيقافها، وإعلان السلطات الاستغناء عن عدد من المعلمين والمعلمات المتعاقدين “من دون أي أسباب واضحة سوى أنهم طالبوا بتحسين وضعهم”.

وشاركت المعلمات في إضرابات جزئية في بداية الأمر، كانت على شكل توقف عن العمل ساعتين يوميا. “لكن الاجراءات التعسفية التي اتخذتها السلطات لقمع هذه الحركة الحقوقية أدت إلى تطور الحراك لصبح إضرابا كليا وتوقفا عن التدريس”، وفق ما أفادت به فاطمة ومعلمات أخريات لمؤسسة الأمل الثقافية الاجتماعية، وشبكة “معا لأجلها”، والمنظمتان عضوان في “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن”.

وبدأت لجان في التشكل، وظهر مندوبون قادوا هذه الحركة الحقوقية “بعد أن فقدوا الثقة في نقابتهم الخاصة بالمهن التعليمية، وتوجهوا لتشكيل لجان على مستوى المديريات ووضع مندوبين للجان في المدارس”، حسب ما أفادت به تقارير مؤسسة الأمل الثقافية الاجتماعية، وشبكة “معا لأجلها”.

اصطدمت مطالبات المشاركين في الحراك بـ “تجاهل من السلطات الحكومية التي تعاملت مع القضية بشكل مستفز قائم على الإهانة”، وفق حديث المعلمات إلى مؤسسة الأمل الثقافية الاجتماعية، وشبكة “معا لأجلها”

واعتقلت السلطات المحلية مدير التربية والتعليم بمديرية القطن على خلفية المطالبات الحقوقية، مما إدى إلى تصعيد حراك المعلمين، وقوبل الأمر بانتهاكات واسعة النطاق طالت أيضا النساء العاملات في التعليم والنقابات. بحسب ما وثقت مؤسسة الأمل الثقافية الاجتماعية، وشبكة “معا لأجلها”

وتشير  تقارير الشركاء في “تحالف العدالة من أجل اليمن” إلى أن المعلمات المشاركات في الحراك النقابي “تعرضن للاضطهاد والمضايقات”. وشملت الانتهاكات “تلقي تهديدات بالفصل من العمل، والمضايقات الشخصية، والتشهير بأسمائهن في المجتمع.

واقع مؤلم

براتب لا يتجاوز 50 ألف ريال يمني، تجد فاطمة صعوبة بالغة في تلبية احتياجات أسرتها. فتكلفة المواد الأساسية (أرز، دقيق، زيت، سكر) تتجاوز 40 ألف ريال شهريا. وتكاليف التنقل إلى مدرستها تصل إلى 12 ألف ريال شهريا.

هذه الأعباء تضاف إلى أجرة البيت البالغة 35 ألف ريال يمني شهريا، وفواتير الكهرباء المكلفة، فرغم تكرار الانقطاعات، تدفه نحو 10 ألف ريال يمني شهريا، يضاف إليها نحو 5000 ريال يمني لتسديد فاتورة المياه، وفق ما تقول فاطمة، مؤكدة أنه حال كثير من المعلمات في حضرموت.

التأخير المستمر في صرف الرواتب، والاستغناء عن المعلمين المتعاقدين بشكل تعسفي، جعل الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة لفاطمة وزميلاتها.

وبمرارة تابعت فاطمة قصة إحدى زميلاتها، التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي انتهى بها الحال في الشارع من دون مأوى لها ولأسرتها، فهي معلمة وزوجها معلم، ولم يستلموا رواتب لأكثر من ثلاثة شهور. ومالك البيت الذي يأوي الأسرة رفع الأجرة بشكل لا يمكنهم تحمله.

وكان هذا النوع من القصص مؤلما لفاطمة التي تعرضت للتهديد بالفصل من العمل، وهو ما فرض عليها تحديات صعبة عليها الاختيار بينها.  لكنها اختارت الاستمرار في كفاحها من أجل حقوقها وحقوق زميلاتها.

وفي إحدى الوقائع، تلقت فاطمة وعدد من زميلاتها “تهديدات بالفصل إذا لم يتوقفن عن المشاركة في الإضرابات”، حسب ما أفاد به راصدون من مؤسسة الأمل الثقافية الاجتماعية، وشبكة “معا لأجلها”.

وفي مناسبات أخرى، فرقت القوى الأمنية التجمعات السلمية للمعلمات وجرى اعتقال بعضهن.

فصل تعسفي ومضايقات

التحقت فاطمة بالعمل النقابي مع لجان المعلمين، ليعلن مكتب التربية والتعليم بالمحافظة أنه يمكن للراغبين في استلام رواتبهم الحضور للإدارة العامة والتوقيع على العقود الجديدة، ومنها سيتم صرف راتب شهرين لهم.

وتحت ضغط متطلبات وتكاليف المعيشة توجهت فاطمة للإدارة لاستلام الراتب، لكنها تفاجأت بشرط التوقيع على تعهد يطالبها بعدم القيام بأي أجراء يعرقل سير العملية التعليمية.

واضطرت فاطمة وعدد من زميلاتها للتوقيع على هذا التعهد. ولكن ذلك لم يمنعها وزميلات لها من الانخراط مجددا في أنشطة لجنة الإضراب مما دفع إدارة التربية للإعلان عن فصل عدد من المتعاقدين لمخالفتهم شروط التعاقد.

وتكشف بيانات مؤسسة الأمل الثقافية الاجتماعية، وشبكة “معا لأجلها”، أن أكثر من 50 معلمة تم فصلها بشكل تعسفي بسبب المشاركة في الاحتجاجات في حضرموت.

ونسبة المشاركة في الإضرابات تجاوزت 70 بالمئة من المعلمين والمعلمات في منطقة الساحل في اليمن.

وتسببت هذه الإجراءات التعسفية في تصاعد الاحتجاجات، وتشكلت لجان ومندوبون لقيادة الحركة الحقوقية في قطاع التعليم باليمن.

استدعاءات قوبلت بدعم مجتمعي

حراك المعلمات قوبل بدعم مجتمعي كبير في حضرموت. ويقول راصدوا مؤسسة الأمل الثقافية الاجتماعية، وشبكة “معا لأجلها”، إن وجهاء وقادة المجتمع المحلي تدخلوا للتوسط بين المعلمين والسلطات.

ورغم محاولات التفاوض للوصول إلى حلول وسطية، فشلت الجهود أمام تعنت السلطات.

وقررت السلطات المحلية إجراء الامتحانات الوزارية لطلاب المرحلة الثانوية بـ “القوة، رغم عدم اكتمال المناهج الدراسية”، وفق ما افادت به منظمات حقوقية عضوة في “تحالف ميثاق العدلة من أجل اليمن”.

وقررت الجهات المعنية توزيع فاطمة وزميلاتها للعمل في مراكز امتحانات بعيدة، وبهذا يتحملن تكاليف تنقل إضافية.

ولجأت فاطمة وزميلاتها لتقديم تظلمات على القرارات التي اعتبرت “جائرة” لكنها قوبلت بالرفض مما زاد من حدة الاحتجاجات.

واجهت فاطمة وزميلاتها ضغوطا شديدة عندما تم استدعاء إحدى المعلمات للتحقيق بتهم “التحريض والتخريب”.

وانتشر خبر الاستدعاء والتحقيق في مواقع التواصل الاجتماعي، مما أثار حراكا مجتمعيا واسعا لدعم المعلمات في حضرموت. وتمكنت المعلمات من حشد الرأي العام وإجبار السلطات على الإفراج عن زميلتهن بعد ساعات من التحقيق.

وأجبر الحراك الشعبي الداعم للمعلمات في حضرموت الحكومة على التعاطي مع المطالب تدريجيا. وأصدرت السلطات قرارات لتحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب، لكن الطريق ما زال طويلا.

لكن التحديات الكبيرة للحصول على حقوق المعلمات في حضرموت دفعت فاطمة إلى التفكير في تغيير مجال عملها والعودة للدراسة. فمعاناة المعلمات لا تقتصر على “التهديدات بالفصل والمضايقات الشخصية”، بل تشمل أيضا “التمييز والتهميش” في فرص التعليم والتطوير المهني، وفق ما تقول المعلمات ومنظمات حقوقية تتابع الملف.