هذه الانتهاكات ليست مجرد حوادث عرضية، بل هي جزء من “حملة ممنهجة” تهدف إلى “إسكات الأصوات النسائية” في الإعلام اليمني، وفق خبراء في “تحالف العدالة من أجل اليمن”.
ورغم التحديات الكبيرة، تجد بعض الصحافيات اليمنيات “الشجاعة لكسر حاجز الصمت والحديث عن معاناتهن، أملاً في تحقيق العدالة”، وفق ما تقول الصحافية وفاء المطري.
وتكشف إحصائية نقابة الصحافيين اليمنيين مقتل 45 صحفياً خلال الحرب التي شهدتها اليمن منذ عام 2014، من بينهم صحافيتان هما: سعاد حجيرة ورشا الحرازي.
“كسر الصمت”
في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تعرضت الصحافية اليمنية وفاء المطري، للفصل من عملها و”تنصلت” المؤسسة التي تعمل فيها من دفع مستحقاتها، وهو ما دفعها إلى التحرك من أجل مواجهة ما اعتبرته “ظلماً ممنهجاً”.
كانت أولى الخطوات التي اتّبعتها المطري هي اللجوء إلى مجموعات التواصل عبر تطبيق “واتساب” في اليمن، من أجل الحديث عن قضيتها، التي باتت قضية عامة يتداولها زملاؤها في المهنة.
لكن المطري لم تصل إلى حل يمكّنها من الحصول على حقوقها، فوجدت في الاعتصام وسيلة أكثر فعالية للضغط وإسماع صوتها. وبالفعل نفذت الاعتصام أمام مبنى مكتب الصحة في تعز، حيث كانت تعمل.
ولم تتوقع المطري أن الاعتصام والمطالبة بحقوقها سيودي بها إلى السجن، حيث اعتقلتها قوات أمنية تتبع للحوثيين، كما صادروا هاتفها الشخصي الذي يحتوي على أدلة تدين المسؤولين في مكتب الصحة الذي تعرضت للفصل منه.
وانتهى الحال بالصحافية المطري حبيسة في سجن الصالح للنساء (سيئ الصيت) في منطقة الحوبان شرق محافظة تعز الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، حيث مكثت فيه 11 يوماً، حُرمت خلالها من الزيارات أو الاتصال بأهلها، فيما سُمح لوالدتها بزيارتها بعد أسبوع من الاعتقال.
وتقول المطري: “فُصلت من عملي، وتعرضت للتهديد والمضايقة والضرب والسجن. وبرغم قرار المحكمة الابتدائية، إلا أنهم رفضوا تسليمي مستحقاتي المالية، وتعرضت للتحرش من قبل مسؤول في الصحة، وكان معي أدلة ورسائل تدينه، إلا أن البحث الجنائي حذف هذه الأدلة من هاتفي”.
وحين انتهت الـ 11 يوماً في الحبس، لم يكن إطلاق سراح المطري سهلاً، بل أُجبرت على تقديم ما يعرف بـ “ضمانة تجارية” كشرط لإطلاق سراحها، وتقول إن النيابة العامة “هددت بسجنها مجدداً إن عاودت الاعتصام”.
عانت الصحافية المطري جراء فصلها من عملها وعدم تسليمها مستحقاتها 15 شهراً، وأصبحت عاجزة عن دفع إيجار منزلها الذي تراكم لستة أشهر، مما جعلها مهددة بالطرد. كما منعتها الجامعة من دخول الامتحان إلا بعد تسديد الرسوم الدراسية، في وقت لم تكن تملك فيه المال لتغطية هذه النفقات، كما تقول.
“تملكّني الخوف”
صحافية يمنية أخرى تحدثت عن معاناتها التي وثقها “تحالف العدالة من أجل اليمن”، لكنها اختارت ألا تكشف اسمها، خشية من أثارها الأسرية، حيث أن قصتها بدأت حين اعتدى عليها أحد الجنود التابعين للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً.
وتنقسم محافظة تعز بين مناطق تسيطر عليها قوات الحوثيين وأخرى تخضع للقوات الحكومية اليمنية.
هذه الصحافية فضّلت اللجوء إلى القضاء لتخوض معركتها بعيداً عن الإعلام، حيث كان “الخوف يتملكّني” من إمكانية الانتقام من أسرتها، لأنها تطالب بحقوقها ومعاقبة الجندي المعتدي، وفق ما وثّق عنها التحالف.
وتقول هذه الصحافية في شهادتها للتحالف إنها تعرضت للاعتداء، وقصتها بدأت في أيار/ مايو 2024، حيث تعرضت لاعتداء في منطقة وادي القاضي وسط محافظة تعز الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية.
وتقول إن “أحد الجنود التابعين لقيادة محور تعز وأثناء خروجي من منزلي، هددني وأطلق ألفاظاً نابية تجاهي، وبعد أن صعدت إلى حافلة نقل عمومية، لاحقني وهددني بالسلاح، بل وأطلق الرصاص لتخويفي”.
وتضيف “عندما تعرضت للانتهاك، كان الخوف يسيطر علي ويتملكّني، خاصة من رد فعل والدي ووالدتي. وكان مجرد التفكير في الأمر يؤرقني، كيف سيكون موقفهما عندما يعرفان أن ابنتهما تعرضت لمحاولة اعتداء من شخص مسلح وأطلق الرصاص نحوها؟”.
ووصلت الصحافية إلى قناعة أنه “لا يمكنني البقاء صامتة، فالصمت لن يحل المشكلة، بل قد يزيد من تفشّي الانتهاكات”، وفق ما يوثّق “تحالف العدالة من أجل اليمن” عنها. لذلك قررت اللجوء إلى القضاء “في محاولة للحصول على العدالة والابتعاد عن تناول قصتي إعلامياً”.
وينقل التحالف عنها، قولها إن اللجوء إلى القضاء لم يكن سهلاً، بل كان “خطوة شاقة وملأى بالتحديات، لكنني كنت عازمة على كسر حاجز الصمت”.
وتقول “صوتي يمكن أن يكون مثالاً للعديد من الصحافيات اليمنيات الأخريات اللواتي تعرضن للانتهاكات ويخشين من التحدث. ولم يكن الأمر سهلاً، لكنني شعرت بقوة أكبر عندما رأيت نفسي أقاتل من أجل حقوقي، وهذا دفعني إلى التفكير في تأثير تجاربي على الآخرين”.
“تعذيب” صحافية
حاول تحالف “ميثاق العدالة من أجل اليمن” توثيق تفاصيل معاناة من نوع آخر، تعرضت لها الصحافية اليمنية هالة باضاوي. لكن باضاوي فضّلت التكتم على جزء كبير مما تعرضت له من انتهاكات، لأنها لا ترغب في تذكر الماضي.
ويشير التحالف إلى أن حالة الصحافية باضاوي “تعكس حجم المعاناة وآثارها النفسية والصحية والاجتماعية على الصحافيات في اليمن، جراء الاعتداءات القاسية عليهن”.
وكانت باضاوي قد تعرضت للاعتقال، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، لأكثر من 100 يوم، حيث مورس عليها التعذيب، وتم إخفاؤها قسراً، وفق التحالف الذي بيّن أن سبب اعتقالها هو كتاباتها الصحافية.
وبعد مرور زمن على اختفائها، اعترفت سلطات الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، بوجودها في سجن الاستخبارات العسكرية في محافظة حضرموت شرقي اليمن. وفي ذلك الحين، وُجهت لها اتهامات بالمسؤولية عن تنفيذ “أعمال تخريبية وعدائية”.
ويقول التحالف إن السلطات الأمنية في المحافظة “مارست ضغوطات نفسية واجتماعية” ضد الصحافية باضاوي، وكشف أنها “تعرضت لحملة تشهير وتشويه لسمعتها، حيث نشرت جهات مقاطع فيديو مفبركة عنها، فتعرضت وأسرتها لحالة نفسية وإنسانية صعبة”.
صُنّفت محافظة حضرموت حينها، بأنها إحدى أكثر المحافظات اليمنية الواقعة تحت سيطرة الحكومة اليمنية انتهاكاً للحريات الصحافية، إبان عهد المحافظ فرج سالمين البحسني، الذي عُرف حكمه بعدائه للصحافيين والذي أصبح الآن عضواً في مجلس القيادة الرئاسي، حيث تشير عدد الانتهاكات التي مورست في عهده إلى 51 انتهاكاً من إجمالي 79 انتهاكاً منذ العام 2015 وحتى نهاية العام 2023، وهو ما يدل على سوء استخدام السلطة حينها من قبل البحسني.
استغلال النفوذ:
ويعلّق تحالف “ميثاق العدالة من أجل اليمن” على الانتهاكات التي تتعرض لها صحافيات في اليمن بالقول إنه “في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن يشكل القضاء الوطني وأجهزة الضبط، آلية وطنية لحماية الصحافيات من كل الانتهاكات والممارسات التعسفية، إلا إن أطراف الصراع أضعفت هذه الأجهزة وغيبت قوانين حماية الصحافيات”.
وفي ملف المطري، فإنه وفق مذكرة صادرة عن نيابة البحث والأمن والسجون في محافظة تعز الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، بتاريخ 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، اتهمت هذه الصحافية بالتشهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعتصام داخل مكتب الصحة.
وتوجهت المطري إلى القضاء بعد معاناتها من تعنّت مكتب الصحة، ورفضه تسليمها حقوقها، حيث قدّمت قضية ثانية مطالبة بحقوقها ومرتباتها. في الوقت نفسه لا تزال القضية الأولى، التي رفعها مكتب الصحة ضدها بتهمة التشهير، تمضي في مسارها الخاص.
ولا تزال القضية الأولى قائمة ولم يُبت فيها، بينما في القضية الثانية، حصلت الصحافية المطري على حكم من المحكمة الابتدائية في تعز في 12 شباط/ فبراير 2024، يُلزم مكتب الصحة بسرعة تسليم مستحقاتها المالية، وفق ما وثّقه التحالف.
ويقول التحالف إن مكتب الصحة في تعز “رفض تنفيذ حكم المحكمة والقرارات الصادرة عن النيابة، مستغلاً سلطته ونفوذه في المنطقة”.
ويضيف أنه “على خلفية رفض مدير مكتب الصحة والسكان في تعز تنفيذ حكم والقرارات الصادرة عن النيابة والمحكمة، أصدرت محكمة ونيابة الأموال العامة في تعز- الحوبان، في الثاني من حزيران/ يونيو الماضي أمراً قهرياً ضده، لعدم حضوره للنيابة للتحقيق معه بتهمة عرقلة سير عمل القضاء”، لكن التحالف يقول إن هذا المسؤول “تمكّن بنفوذه من عرقلة تنفيذ قرارات القضاء”.
وفي قضية الصحافية التي تعرضت لاعتداء من جندي حوثي “لا تزال القضية عالقة في النيابة، على الرغم من إصدار أوامر قبض قهرية بحق الجاني، إلا أنه لم يتم القبض عليه، مستفيداً من نفوذه في الانتماء إلى قيادة محور تعز”، وفق ما أفاد به “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن”.
وكشفت المحامية التي تدافع عن الصحافية أن “سبب تأخر سير القضية هو صعوبة تنفيذ الأحكام القضائية نتيجة الحرب وضعف السلطات”.
وقالت إن “المتنفّذين يستغلون قوتهم لعرقلة تنفيذ العديد من الإقرارات والأحكام، مما يعكس عدم تنفيذ القانون، فيما يخص الانتهاكات التي تتعرض لها الصحافيات في اليمن”.
واقع عمل الصحافيات “مؤلم”
يقول محمد إسماعيل المدير التنفيذي في “مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي” في اليمن، العضو في “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن” إن الصحافيات “يواجهن استهدافاً ممنهجاً بمختلف الأساليب والطرق، من جميع أطراف الصراع وبدرجات متفاوتة”.
ويضيف أنه “رغم محدودية عدد الصحافيات اللواتي تعرضن لانتهاكات مقارنة بعدد الصحافيين الذكور، إلا أن المرصد سجل منذ العام 2015، 46 انتهاكاً ضد الصحافيات”.
وأكد أن “الواقع يفوق بكثير هذه الأرقام، حيث أن العديد من الانتهاكات التي تتعرض لها الصحافيات غير معلنة، خوفاً على حياتهن وسمعتهن، مما يصعب رصدها وتوثيقها”.
وأوضح أن الانتهاكات التي رصدها المركز تنوّعت بين “الاعتقال، والاعتداءات اللفظية والجسدية، إلى جانب الابتزاز والتنمر، بالإضافة إلى الخوض في أعراضهن وتشويه سمعتهن عبر المنصات الإلكترونية والإعلامية المتنوعة”.
وبيّن إسماعيل أن الصحافيات في اليمن “يواجهن إجراءات معقدة عند إجراء المقابلات أو الحصول على التصاريح، حتى وإن كانت القضية المطروحة للتغطية الإعلامية اجتماعية ولا تتعلق بالسياسة”.
مؤشر خطير
وكشفت دراسة حديثة ل”مرصد الحريات الإعلامية”، مطلع عام 2023، تنامي ظاهرة التنمر الإلكتروني تجاه الصحافيات اليمنيات كنوع من القمع الممنهج ضد الصحافيات لتحجيم نشاطهن. وقالت 72 في المئة من الصحافيات المشاركات في الدراسة إنهن تعرضن لـ “التنمر الإلكتروني بشكل متكرر”.
وتعتقد 90 في المئة من الصحافيات المشاركات في الدراسة أن أسباب ظاهرة التنمر الإلكتروني الموجهة ضدهن، ترتبط بـ “عوامل اجتماعية وثقافية، وهو مؤشر خطير على وجود قبول اجتماعي لتصعيد الاعتداءات ضدهن”.
وأدت ظاهرة التنمر الإلكتروني إلى “عزوف كثير من الصحافيات والناشطات عن استخدام منصات التواصل الاجتماعي”، حسب ما توصلت إليه نتائج الدراسة.
تهديدات شخصية:
ويكشف عدد من التقارير مستوى الضغوطات والتمييز الذي تواجهه النساء في اليمن، مما يتطلب اتخاذ تدابير فعالة لضمان حقوقهن في ظل الثقافة المتشددة، وفق ما يقوله خبراء في “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن”.
ووفقا لتقرير فريق الخبراء إلى مجلس الأمن، الصادر في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تتعرض النساء اليمنيات العاملات في مجالات السياسة وحقوق الإنسان لـ “تهديدات تشمل القتل”، كما “يتعرض أطفالهن للمخاطر”.
وشدد التقرير أن هذه الأنواع من الانتهاكات “تؤثر بشكل سلبي على النساء، خصوصاً أنها تقع في المجتمع اليمني المحافظ اجتماعياً”.
كما وثّق تقرير أصدره “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن” سعي أطراف النزاع في اليمن “لإسكات المدافعين عن حقوق الإنسان من خلال التهديدات باستخدام أساليب مختلفة مثل الاحتجاز والتعذيب والمحاكمات ذات الدوافع السياسية”.
وأشار التقرير الذي استعرض حالات نساء مدافعات عن حقوق الانسان في محافظة حضرموت، إلى أن السلطات المحلية والشرطة في المحافظة “تتجاهلان قضايا المدافعات عن حقوق الإنسان، مما يعزز التمييز ضد النساء” في اليمن.
الإفلات من العقاب
وغالبا “يفلت” المعتدون على الصحافيات اليمنيات من العقاب، بسبب ضعف نظام العدالة والقضاء، ونفوذ الميليشيات المسلحة وأطراف النزاع في البلاد، وفق التحالف.
وفي تسعة من كل 10 حالات اعتداء على صحافيات يمنيات على الأقل، “يفلت المتورطون من العقاب”، بحسب ما كشفه بيان مشترك لأكثر من 50 منظمة يمنية بمناسبة اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب، في الجرائم المرتكبة بحق الصحافيين للعام الماضي 2023.
ووثّق التقرير وقوع أكثر من 2500 انتهاك بحق النساء الناشطات في اليمن، سواء في مجالات السياسة أو الإعلام أو حقوق الإنسان.
وتقول المحامية اليمنية والمدافعة عن حقوق الإنسان نوال باكونه، إن واقع الانتهاكات بحق النساء الناشطات عموماً والصحافيات خصوصاً، يتطلب من المجتمع المحلي والدولي “العمل بجدية على إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، وإنصاف الضحايا من هؤلاء المجرمين، والعمل على تمكين الصحافيين والصحافيات من القيام بعملهم بكل حرية ومهنية”.
وتوضح أنه “برغم وجود القوانين والمعاهدات الوطنية والدولية التي تحمي النساء، إلا أن تطبيقها في اليمن يواجه تحديات كبيرة، مما يستدعي جهوداً مكثفة من المجتمع المحلي والدولي لضمان حماية الصحافيات والنساء بشكل عام من الانتهاكات والتمييز”.
وتشير باكونه إلى أن الدستور اليمني ينص على أن “الدولة تكفل حق حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة”، كما ينص على “حماية حقوق جميع المواطنين، بمن فيهم النساء”. إلى جانب ذلك، يعزز العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والقرار 1325 لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للعام 2000 “دور النساء في منع النزاعات وحلها، ويدعو إلى حماية النساء والفتيات في النزاعات، بمن فيهم الصحافيات”.
Yemeni Women Journalists: A Fight for Justice Despite Systemic Threats
Linked in
https://www.linkedin.com/feed/update/urn:li:share:7270074484689141761/?actorCompanyId=103498749
Twitter:
https://x.com/J4YP_Coalition/status/1864309690580025780